بعد إخفاقاتهما الاستراتيجية.. تركيا وإيران ضرورة المراجعة

تابعنا على:   16:15 2023-05-27

صالح عوض

أمد/ يبدو أنه من الضروري نزع بعض الاشواك امام هذا المقال لكي يؤدي رسالته ويصل دونما تشويش فهو موجه لأصحاب القرار في تركيا وايران -مع حبي للبلدين المسلمين وحرصي عليهما- وللمهمومين من أبناء الامة في النخب السياسية والثقافية في بلداننا العربية في محاولة للتأكيد على أن تجاوز الجغرافيا السياسية ومعطيات التاريخ على جغرافيا استثنائية سيقود حتما الى مستنقعات من الامراض والدماء وهنا تصبح المراجعة مسألة حميدة بل وضرورية .. والتأكيد قاطع في هذا المجال بأن الجاليات الايرانية والتركية المتناثرة في جسدنا والتي ترفع مظلاتها اذا ابرقت سماء ذلك البلد او ارعد الاخر.. فهذه الشريحة المستلبة غير مقصودة ولا منتظر منها رأي فلتوفر رأيها عندها.

تركيا وايران ومشروع الامبراطورية:

تركيا وايران تحتلان الموقع الاكثر حساسية في جيرة العرب وهما لاسباب عديدة ومنذ مئات السنين اصبحتا مرتبطتان مصيريا بالعرب وكذلك العرب يجدون انفسهم في حالة يقظة مستمرة تأثرا وتأثيرا مع هذين الجارين الكبيرين.

ولكل من هذين البلدين تارخ امبراطوري وتجربة في التسيد ولعل جزء من تاريخهما الامبراطوري كان بتمددهم في الجسد العربي او باختراقه، ويمكن اختصار المشهد التاريخي لنبدأ في معاينة العلاقة منذ ارتفعت راية الاسلام في جزيرة العرب وانبعاث العرب في الاقليم لادخاله في نظامهم السياسي الجديد وهنا وبعد وقت ليس طويل دفع الجار بكل طاقته في نهضة الجوانب الفكرية والمادية للحضارة العربية الاسلامية واسهم الجار اسهامات اصبحت في مرحلة معينة كانها حكر عليه في الطب والفلسفة والهندسة بل وحتى في علوم العربية والفقه والحديث.

سقطت العالمية الاسلامية والنظام السياسي الواحد على علاته برحيل السلطنة العثمانية التي كانت في عقودها الاخيرة تلفظ انفاسها تخلفا وعرقية وهزائم وتخلف.. وبهذا انتهت عالمية المسلمين وفعلت بهم السياسات الغربية فعلها تقطيعا لاوصالهم وتجزئة لديارهم وخلق ثقافة قطرية وعرقية وزرع كل الافكار المدمرة في نخبهم ضمانا لقتل أي محاولة نهضة قادمة.

وفي سياق الكفاح المستميت الذي عبدته طلائع النهضة الثقافية في مصر وتركيا وايران في القرن السابق بزت تيارات سياسية ايديولوجية تتخذ من المرجعية الاسلامية اطارها ومرجعيتها ولكن بمستويات مختلفة في التعاطي مع الفكرة الاسلامية كل حسب معطيات واقعة ومع نسبة التغلغل المتنوع من الافكار الغربية التي اصبح لها مستقر في العقل والواقع.

فكان مشروع ايران الاسلامي ومشروع تركيا الاسلامي والمشروع العربي الاسلامي محاولات لملء الفراغ وهنا ينبغي التفريق تماما بين النوايا والممارسة وبين الرغبات الجامحة وتربص الاعداد واختراقاتهم وتوجيهاتهم من خلف ستار كاننا على مسرح يقف المعلم المجرم خلف الستارة او في صناديق على خشبة المسرح يلقن اللاعبين بكلماتهم الحاسمة ومراحل انطلاقهم وتوقفهم..

اشتدت يقظة المشروع الاستعماري وتدخلاته لجعل الاسلام جسر عبور للاجهاز على البقية الباقية في الامة وكي يكون موتنا موتا شرعيا محكوما للقدر والتبريرات المازوخية وفي لحظة ما وجد الغرب الاستعماري فرصته لتدمير الدولة الوطنية والتي هي حد ادنى من طموحاتنا ورأى ان ذلك لايمكن أن يتم الا من خلال توجيهه غير المباشر للمشروع الاسلامي او من خلال صنع كيانات سياسية اسلامية باسماء فاقعة كتنظيم دولة الخلافة والنصرة وسوى ذلك من اسماء فاقعة..

هنا نقف امام المشروع الايراني والمشروع التركي محل البحث هنا، لعلنا لا نجد ملامح محددة لاي من المشروعين حيث تلف الثاني ضبابية كبيرة وكلام مغمغ وعلاقات متناقضة ومواقف تحتاج دوما لتبريرات واحاديث عن الرغبات والاماني اما الاول فلم يستقر حاله على منظومة فكرية واضحة الامر الذي افقده تحديد رؤيته ومرتكزاتها وضوابط مفاهيمه.

المشروع التركي رغم ان قادته يعلنون انهم ليسوا مشروعا اسلاميا الا ان طبيعة مواقفهم وعلاقاتهم تظهر انهم جزء حقيقي من التيار الاسلامي السني ولهذا نجد التعاطف الاسلامي السني العربي وغيره معهم بلا حدود.. ولكن هذا المشروع فاقد الهوية السياسية وفاقد القدرة على تحديد مواقعه من جملة القضايا الاساسية يتحرك بروح براغماتية ظنا منه انه يخادع الدوائر الاستعمارية وفي رحلته هذه يتحرك كجزء من منظومة امنية دولية تقع اسرائيل في جوهرها.. يظن اصحاب هذا المشروع انهم يستطيعون احراز وقائع مادية قوية تضمن تكرسهم في المنطقة.

وقبل ان يحسم هذا المشروع ملامحه في حدود اقليمه دخل مغامرة خطيرة توافق فيها مع القوى الاستعمارية وادواتها في المنطقة بتدخل سافر عنفي في سورية بحجة ضرورة تغيير النظام الديكتاتوري في سورية.. وهنا سمح قادة المشروع التركي لانفسهم بالدخول على تركيب المجتمع السوري الذي تفتت الى مكوناته الاثنية جميعا وذهب الى التشتت ورحيل اكثر من 7 مليون سوري عربي سني من بلدهم

في المقابل كان المشروع الايراني يرسم معالم رؤيته في كيفية التعامل مع الاقليم وفي الوضع الدولي الا ان انقلابا كبيرا حصل على منظومة المفاهيم وانقلابا كبيرا حصل في الممارسة والمنهجية فلئن رفض الخميني استقبال حافظ الاسد بعد مجزرة سورية ورفع الكرت الاحمر امام النظام السوري عندما حاول الجيش السوري اقتحام طرابلس الشيخ سعيد شعبان.. اما على صعيد الامة فكان الخميني يعتبر ان من يرفع شعار سنة او شيعة فهو محض منافق وذهب بقوة لتكسير بعض ثوابت الطائفية مصرا على ان الامة لاينبغي تسميتها الا باسمها الطبيعي الاسلام.. وفي موضوع فلسطين فلقد كانت رؤية الخميني هي اجتثات اسرائيل من المنطقة وتمكين الشعب الفلسطيني من بلاده وسيادته، وموقفه من الدول العربية ان يترك الحكام والملوك وشانهم ولكن عليهم التوحد ضد الاطماع الاستعمارية وفي اتجاه الغرب فلقد كان للخميني موقفا فكريا واضحا حاسما كما انه حدد طبيعة العلاقة مع الادارات الامريكية على اعتبار انها شيطان اكبر.

الان كل شيء انقلب في ايران فلقد اصبح مشروع توحيد الشيعة وان تكون طهران خطوة مقدمة على توحيد الامة كما جاء في كتاب الوحدة الاسلامية لاحد اهم قيادات الحرس الثوري هذا الكتاب الذي يعتبر عقيدة امنية وسياسية للحرس.. فنتج عن ذلك تدخل في ايران والعراق وسورية واليمن، وبعد ذلك لم تعد امريكا هي الشيطان الاكبر بلد النظام العراقي الذي يجاور ايران فكانت التفاهمات المباشرة وغير المباشرة مع الامريكان لاسقاط النظام العراقي ومن ثم استباحة العراق وشرخ المجتمع العراقي وتحويله الى موبأة دامية، و اقتحمت الشان السوري وحشدت فيه كل المليشيات الشيعية من لبنان والعراق وافغانستان تشارك في اكبر مجزرة للشعب السوري.

هكذا غرق المشروعان الامبراطوريان في اوحال المنطقة وكاني بالقائد الالماني المتميز رومل كيف ابتلعته صحراء ليبيا.. وهكذا تكون الامة قدمت تضحيات وخسائر في ظل المشروعين اكثر بكثير مما قدمته على مذبحة التدخل الاستعماري في بلادنا العربية.

عندما تصبح الاحلام متاهة:

لقد عبثت الأحلام بمنطق الحكام وأصحاب المشاريع في كلا البلدين الاسلاميين الكبيرين والجارين الحتميين للعرب.. وقد يكون للاحلام مبرراتها في البداية ولكن في الممارسة توغلت هاتان الدولتان في اللحم العربي وتسببتا في ماسي للعرب انتهت إلى هجرة ملايين العرب من العراق وسورية واليمن وقتل ملايين اخرى وهدم البيوت في أخطر نكبة تعرض لها العرب.

لقد ساعدت ايران عملية إسقاط النظام العراقي ومكنت الخونة أدوات امريكا من العبث في العراق وكان ذلك كله بتنسيق مع الامريكان وبعد ذلك مدت ارجلها في الشأن العراقي في مياهه وبتروله وتركيبته الديمغرافية والسياسية.. واسندت قوات الطائفية لتدمير مدن سنية وتهجير العرب السنة فانتهى العراق ليكون مزقا محطما..

ولقد كانت تركيا جسر العبور للمال والرجال المحاربين لتدمير سورية واشعال النار في اطرافها وتم ذلك كله بالتوافق مع القوى الاستعمارية فكانت النتيجة تهجير ملايين العرب السنة وتدمير البلد وتوزع اجزائه على كل انواع الاحتلال الاقليمي والدولي.. لقد وجدت ايران وتركيا اللحم العربي طريا رخوا فنهشت فيه بلا رحمة ولا خوف من الله وحكم التاريخ..

نظرة الى المستقبل:

الان بعد ان اصبح واضحا ان الدرب التي سلكته كل من ايران وتركيا إنما هو درب للشيطان والجريمة يقتضي اسلامهما ومستقبلهما ان تراجعا تجربتهما الكارثية.. فكما ان ما تم ممارسته خلال العقدين السابقين كان محض تجاوز عن روح الاخوة والرحمة وحسن الجيرة مع العرب فهو كذلك فشل عظيم للمشروعين التركي والايراني فلقد اقاما بما ارتكبا في سورية والعراق جبالا من سوء الظن في نوايهما ومشروعهما.. ولن يجد أي عربي حر من ارتباطات ايديولوجية خاصة في التصرف الايراني والتركي في سورية والعراق الا ظلما وجريمة كبيرة تمس استقرار الناس وامنهم وسلامهم ومستقبلهم.. اما اولئك الذين وضعوا عقولهم في جراب الولاء الايديولوجي فهم سيرون في هذا الكلام نزعة قومية.. وكأن العرب لاقيمة لهم في موضوعة نهضة الامة فيما هم يمتلكون المقدس كله فالقران بلغتهم والمقدسات في ديارهم والنبي وصحابته منهم.. وارض العرب هي الملاحم والمعارك التاريخية الاستراتيجية مع اعداء الامة.

من جهة اخرى يدب الانتباه الى واقع الحال بدقة وهنا عليهما ان يدركا تركيا وايران انهما ليسا احسن حالا من الدول العربية على مستوى الشعوب وحتى الحكومات فانت في مصر او الجزائر او السعودية ستجد ان سمات الاسلام الاصيل في الشارع والمجتمع اكثر بكثير مما تجده في اسطمبول او طهران وستجد ان الحاكم العربي لا يتردد عن اعلان الاسلام وحتى الان لم تتورط دولة من حواضر العرب الارئيسية في تطبيع حقيقي مع العدو ولم تقم ببيع وشراء استراتيجي مع العدو الصهيوني وعلى صعيد الديمقراطيات وحقوق الانسان فلن يستطيع احد ان يدعي انها في ايران مثلا افضل من الجزائر او مصر ولا يستطيع الاتراك ان يغمضوا اعينهم عن كيفية تعاملهم مع المعارضة بكل قسوة او حسم الامر الذي يفقدهم المبرر ان يتدخلوا في شأن البلد العربي.. فعلام اذن اعطاء النفس التصريح بالتدخل في الشان العربي وانهما لم يحققا اي هدف استراتيجي خلال عشرات السنين إنما فقط الحرب في الداخل العربي والاسلامي وعليهما ان يدركا ان العرب حالة مستعصية لا يمكن هضمها ولا تأتي الا بالمحبة والاخوة.

لابد من التأكيد مرارا اننا لانملك بديلا عن صياغة علاقة اخوية صافية بين مكونات الاقليم العرب والفرس والترك.. فنحن جميعا نواجه نفس الخصوم التاريخيين، ونحن جميعا دون مستوى النهضة والمنعة، وهنا لايملك احد من العرب او الترك او الفرس نموذجا يمكن ان يحتذى به الاخرون انما هي كلها محاولات فشلها اكثر من نجاحاتها.. من هنا لا سبيل الا سبيل التعاون والتفاهم وعدم الانخراط في مؤامرات الاعداء.. ومن هنا ينبغي ادراك ان محاولات التغيير الديمغرافي في المنطقة عملية عقيمة لن تنجح الا في غرس الشكوك وسوء الظن والاحقاد.

مصالحات عربية ايرانية خطوة تمهيدية اساسية لاقناع ايران بعدم التدخل في الشأن العربي وتركيبته الاثنية كما انه في الوقت نفسه ضمانة ان لاينخرط النظام العربي في تحالفات امنية ضد ايران، كما ان تفاهمات تركية عربية من شانه تدعيم التجارة البينية وانفراج الاحتقانات بين الجارين المسلمين وتجنيب المنطقة صراعات عرقية واوهام توسعية لم تعد اسبابها قائمة.

كلمات دلالية

اخر الأخبار