اللحظة المصرية؟!

تابعنا على:   11:31 2021-11-24

د. عبدالمنعم سعيد

أمد/ يجب أن أعترف أن اختيار عنوان هذا المقال كان صعبا، فتعبيرات مثل اللحظة المصرية أو الإعلان عن حالة من التحول التاريخى أو الكيفى فى مصر هى ليست ذات معنى حقيقى فى بلد تعود فيه تقاليد الدولة إلى أكثر من خمسة آلاف عام. والمؤرخون يقسمون أحيانا فترات التاريخ المصرى حسب سيادة حضارة بعينها فكانت الفرعونية ثم القبطية ومن بعدهما العربية الإسلامية وحتى وصلنا إلى مرحلة مصر "الحديثة" منذ ولاية محمد على فى عام ١٨٠٥. وبالطبع هناك مؤرخون يحددون لحظات التحول الكبرى حسب معايير أخرى، أما علماء الدين والاقتصاد والسياسة والاجتماع فقد كانت لهم تقسيماتهم، وفى فترات الحماس، فإن كل ما هو تحول وتاريخى ومصيرى وحاسم كان دائما من الكثرة بحيث يصعب حسابه وعده. هو نوع من التخوف المشروع من المبالغة، والخوف الذى تدرب عليه جيلنا من تلك الحالة من الصعود والهبوط التى تعكس التاريخ المصرى المعاصر. فبعد ميلاد مصر الحديثة، وإشهارها دولة من دول العالم المستقلة فى 1922، وتحريرها من كل حكم أو احتلال أجنبى في١٩٥٢،فإنه لا يوجد ما ينبغى السعى إليه قدر الوصول إلى تلك اللحظة الفارقة ما بين التخلف والتقدم حتى يكون للحداثة والتطور معنى ووجود. وخلال هذه المسيرة التى تزيد على مائتى عام جرت عملية التغيير فى مصر وبطريقة متراكمة وفق نمط متردد يسير فى فترات من النمو المتسارع لبضع سنوات يعقبها سنوات أو حتى عقود أخرى من الركود. ورغم التغيير الذى حدث فى مصر حتى بات المصريون الآن يختلفون كثيرا عن هؤلاء الذين كانوا يعيشون فى البلاد عند نهاية القرن الثامن عشر، فإن مصر لم تتمكن من اللحاق بركب الدول المتقدمة. صحيح كانت مصر دولة مهمة ذات مكانة إستراتيجية، وصحيح أنها كثيرا ما ساهمت فى أفكار العالم المعاصر والإقليم، ولكنها ظلت دائمة مترددة ومتراوحة فى المكان، ولديها قوى متناقضة بعضها يشدها إلى الأمام والاندماج فى العالم المعاصر، وبعضها الآخر يشدها إلى الخلف ويحاول عزلها وبناء الأسوار النفسية والفكرية بعيدا عن الدنيا كلها بحثا عن عفة روحية أو نقاء حضارى.

وللحق فإن هناك الكثير من الأسباب التى تدفع إلى مشاهدة اللحظة الراهنة باعتبارها لحظة فارقة لأن ما يجرى فيها ليس أفكارا ومشروعات وطموحات وأحلاما، وإنما هو واقع مجسد. هو حقيقة تنم عن الكثير الذى سوف يأتى بعدها، وحتى ما يبدو كما لو أن المشروعات المادية سابقة بسرعات كبيرة على بناء الإنسان المصرى من تعليم وآداب ووعى، وفى أحيان الحساسية تجاه تراث وأشجار؛ فإن الواقع أيضا يقول إنه لم يحدث فى التاريخ القريب ذلك القدر من المشروعات التى حافظت على القاهرة التراثية وأعادت الحياة إلى شطآن النيل والبحيرات والبحار والخلجان. والجديد فى الأمر أن كل ذلك حدث خلال سنوات قليلة، وبسرعات لم تعهدها مصر فى تاريخها المعاصر، وبطريقة متوازية كتلك التى تحكم المونوريل والقطار السريع وغيرهما من مشروعات. والجديد أيضا أنه يحدث وسط سياسة خارجية نشطة وهادئة فى آن واحد؛ وبناءة بالمعنى الحرفى فى تعمير غزة وإقامة شبكة للمصالح والعلاقات غير مسبوقة محتواها غاز ونفط ولكنها استراتيجية بمعنى الكلمة فى منتدى شرق المتوسط. العلاقات مع القوى الكبرى تجرى بنفس منتظم، لا ينحرف ولا ينحاز، وفيه من الحساسية الحضارية التى لا تبلع طعما، ولا تلفظ طرفا، ولا تُقبل أو تُدبر إلا بحساب.

القراءة الموضوعية لما حدث ويحدث هى أن اللحظة المصرية فيها الكثير وهى فى مراحلها الأولى من اللحظة الصينية وتلك الهندية والثالثة الكورية والرابعة الفيتنامية التى جرت فيها اندفاعات كبرى وفارقة خلال عقود قليلة. ما أتت به هذه اللحظات من دروس تنقل لنا أنه من المهم دائما أن تبقى قوة الاندفاع وسرعتها باقية بتحقيق المزيد من النمو الاقتصادى والاجتماعى، وعبور الفجوة الكبيرة بين بناء البنية الأساسية وبناء الانسان. الصين ومكانتها فى العالم الآن معروفة بدأت نقطة التحول فى عام 1978. فبعد عامين من الصراع على الحكم بعد وفاة الزعيم الصينى ماو تسى تونج وشواين لاى، وصلت إلى الحكم قيادة هيتساو بينج التى امتلكت رؤية اقتصادية مختلفة قامت على انتهاج سياسة فى الإصلاح الاقتصادى تقوم على تحرير السوق مع بقاء دور الدولة قويا فى تحديد وتنفيذ سياسات التنمية. كما اعتمدت هذه السياسة على تدعيم مشاركة القطاع الخاص، والتحرير التدريجى للأسعار واللامركزية المالية، وزيادة الحكم الذاتى لمؤسسات الدولة، وتطوير أسواق الأوراق المالية، والانفتاح على التجارة الخارجية والاستثمار. وبفضل ذلك، ارتفع حجم التدفقات السنوية للاستثمار الأجنبى المباشر، ووصل معدل النمو الحقيقى إلى 9%، وهو ما وضعها عام ٢٠٠٨ فى المرتبة الثالثة على مستوى العالم، وهى الآن تنافس الولايات المتحدة على المرتبة الأولى ووفقا لمعيار القدرة الشرائية للدولار فإنها تتعداها.

الحفاظ على قوة الاندفاع يأتى من الاستمرار فى الطريق الذى نسير فيه مع توفير قدرات استثمارية متزايدة سواء كانت داخلية أو خارجية. ولحسن الحظ، كما هو الحال مع التجارب الأخرى فإن تجربتنا تحدث وسط قفزات تكنولوجية عالمية تعطينا فرصا لم تكن متوافرة بنفس الدرجة للتجارب السابقة. فرغم كل الأعباء التى أثارتها أزمة كورونا التى ضربت العالم فى نهاية عام 2019، فإنها خلقت فرصا جديدة لدعم والإسراع بعملية التنمية الجارية فى مصر، وجاءت الفرصة لتحديث الدولة فى نفس وقت تحديث العالم اعتمادا على الثورة الرقمية. فلا كان ممكنا التعامل مع جيش العمل غير المنتظم، ولا قطاع الصحة، ولا التعليم دون التقدم الذى يجب ان تحققه مصر فى هذا المجال. وحديث اللحظة المصرية متصل؟!
عن الأهرام

اخر الأخبار